دولة اللاجئين العظام: جمهورية السفراء الدائمين
في واحد من أكثر فصول التاريخ اليمني عبثية وسوريالية، نعيش اليوم مفارقة تليق بروايات فرانز كافكا أو بمشاهد من مسرح اللامعقول: "الشرعية اليمنية"، تلك التي كان يفترض أن تكون التعبير المؤسسي عن حلم اليمنيين في استعادة جمهوريتهم المنهوبة، تحولت إلى ناد مغلق من المتحدثين باسم الدولة وهم في الحقيقة مواطنون بدرجة "لاجئ سياسي" أو "إنساني" في عواصم العالم.
من باريس إلى أمستردام، ومن عمان إلى إسطنبول، تتوزع المقرات المؤقتة لممثلي "الدولة اليمنية"، يتحدثون عن العودة إلى صنعاء كما يتحدث لاجئ فلسطيني في مخيم اليرموك عن العودة إلى حيفا، مع فارق أن الفلسطيني لم يتقاضَ راتبه من "دولته" التي لم تتحقق، بينما هؤلاء يستلمون مرتباتهم بانتظام، بل ويحظون بامتيازات اللاجئ والعامل والناشط السياسي في آن معا.
بمعنى أدق إنهم مواطنو دولة افتراضية لها سفراء بلا سفارات، ووزراء بلا وزارات، ومستشارون بلا ملفات.
السخرية هنا ليست في المأساة، بل في من يديرونها بوقار البلاهة. فبينما ملايين اليمنيين يعيشون واقع الجوع، والانهيار الاقتصادي، وانسداد الأفق، يظهر علينا ناطقٌ رسمي في بث مباشر من "عاصمة المنفى"، يحدثنا عن "الانتصارات الدبلوماسية" و"التحركات السياسية"، بينما هو ذاته يقيم إقامة دائمة في دولة أوروبية، ويستلم معونته من مكتب اللاجئين، ثم يحدثك بكل جدية: "نحن قادمون لاستعادة صنعاء"!
أي وقاحة تلك التي تسمح لمسؤول حكومي أن يجمع بين صفة اللاجئ السياسي وراتب الدولة اليمنية؟ كيف يمكن لمسؤول – يفر من وطنه ويطالب بالحماية من دول أخرى – أن يزعم قيادة مشروع العودة؟ أهي دولة أم حفلة تنكرية؟
ولنتساءل:أين يبدأ الوطن وأين ينتهي المنفى في هذه الكوميديا السوداء؟
نعم ، لقد تحوّلت الشرعية اليمنية من مؤسسة سياسية إلى مؤسسة رمزية، أقرب إلى لوحة فنية معلقة في معرض أممي للضحايا.
بالتأكيد لا أحد ينكر التحديات ولا يعفي الحرب من مسؤوليتها، ولكن لا شيء يبرر هذا الكم من التراخي، والازدواج، واللامبالاة.
ذلك أن الشرعية باتت تقيم خارج الوطن، وتنتج قراراتها من خارج الجغرافيا، وتشتغل – ويا للعجب – على صياغة المستقبل بينما تعيش في هامش الحاضر.
صدقوني نحن بإزاء طبقة سياسية هجينة، تمتهن النضال من على بعد آلاف الكيلومترات، تصدر بياناتها من مقاهي الخارج، وتناقش مصير اليمن في شقق فخمة اشتروها . وكأن الوطن مجرد "زووم ميتنغ" أسبوعي، أو محادثة "واتساب" بين اثنين يتبادلان صور العلم والنشيد، دون أن يدركا أن أغلب الشعب لا يملك ثمن شريحة هاتف، فضلا عن خبز.
على إننا لا نهاجم اللاجئين، فكل يمني في المهجر ضحية بشكل ما، ولكننا نسخر من أولئك الذين اختزلوا الوطن في "وظيفة دولية"، وناضلوا من أجل "كرسي في وزارة أو سفارة" أكثر من نضالهم من أجل الخلاص الوطني. لقد صنعوا من الشرعية غطاء طويل الأمد للكسل، والهروب، والتكسب.
عجبي عموما.. من وطن يسكنه شعبٌ عظيم، وتديره نخبة بلا ظل، ترفع شعار "استعادة الدولة" من عواصم لا تسمح لهم بالإقامة لأكثر من ثلاثة أشهر دون تصريح إقامة لاجئ!