اليمن وعبقرية التعطيل: حين يتفوق العقم السياسي على الممكن التاريخي!

Author Icon فتحي أبو النصر

مارس 12, 2025

هناك نوعان من العجز في عالم السياسة: عجزٌ مفروضٌ من الخارج، وعجزٌ تتفنن القوى الداخلية في صناعته بحماسة مذهلة. واليمن، للأسف، يجيد النوع الثاني بإتقان يُدرس في أكاديميات الفشل السياسي.

نعم ، دعونا نضع الأمور في نصابها: فكرة التوصل إلى اتفاق يمني ينهي الانقلاب ويحفظ وحدة البلاد ليست ضربا من المستحيل. بل هي وصفة جاهزة، مجربة في سوريا، وأثبتت أنها قابلة للتحقيق لو توفرت الإرادة الدولية، وتحديدا السعودية والإماراتية والأمريكية، لدفع الأطراف نحو حل واقعي. بل إن التحولات الجيوسياسية الأخيرة تشير إلى إمكانية ذلك، خاصة مع رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة في إغلاق ملفات المنطقة كما تغلق مستندات مهملة على سطح مكتبها.!

لكن، مهلا! هنا يبدأ المشهد اليمني في تقديم عرضه المذهل للعبث. فبينما قد يعتقد المراقب الخارجي أن المشكلة تكمن في التوازنات الدولية أو في تعنت الميليشيا الانقلابية، فإن الداخل اليمني يفاجئنا بمعوقاته العبقرية.

طبعا نحن لا نتحدث عن خصومات قائمة على مشاريع وطنية متباينة أو رؤى استراتيجية متعارضة، بل عن حروب داحس والغبراء بنسخ حزبية حديثة، حيث يُختزل مصير وطن في صراع على وزارة هامشية أو في مشاحنة حول تغريدة من سياسي مغمور.
نعم ، الأحزاب اليمنية تتفنن في تحويل كل فرصة للوحدة إلى معركة طواحين هواء، وكأنهم يتنافسون على بطولة العالم في إفشال الذات.

من هنا يفترض أن جيوش الشرعية تخوض معركة مصيرية ضد انقلاب دموي، لكن في الواقع، ما زالت فكرة "توحيد الجيوش" أشبه بمشروع علمي مستقبلي، ربما يحتاج إلى ثلاثة عقود من الأبحاث والتجارب السريرية. !
والسبب؟ كل فصيل عسكري لديه ولاءات مركبة، وخطوط دعم منفصلة، وحساباته الخاصة التي تتجاوز أي مفهوم عن الدولة.
ولكن ما المشكلة إن بقيت الميليشيا موحدة بينما الشرعية منقسمة؟ من قال إن الحرب يجب أن تكون عادلة؟
في الحقيقة فإن مجلس القيادة الرئاسي، الذي كان يفترض أن يكون مؤسسة موحدة تدير المعركة السياسية والعسكرية، لا يزال غارقا في خلافاته الداخلية.
البعض يتصرف كأنه رئيس مطلق الصلاحيات، والبعض الآخر كأنه رئيس ظل، بينما يفضل آخرون لعب دور المعارضة داخل السلطة نفسها!
نعم ، إنهم أشبه بفرقة مسرحية بلا نص، يؤدون مشاهد مرتجلة بلا حبكة، فيما الوطن واقتصاده ينهار ويتآكل خلف الستار.
أما الحكومة، فهي قصة أخرى من الفانتازيا السياسية. إذ لم يتحقق حتى الآن "وفاق" حقيقي بين الرئاسة والحكومة، وكأنهم يتفاوضون على دستور كوكب آخر. كلما اقتربوا من صيغة مشتركة، انفجرت الخلافات حول التفاصيل الأكثر تفاهة، في حين تزداد أزمات الاقتصاد، وتتضاعف معاناة الناس، وكأنما الحكومة والرئاسة في مباراة شطرنج لا تنتهي، بينما المواطن مجرد بيدق نُسي في الزاوية.
في الحقيقة نحن أمام حالة سياسية فريدة، فيما تتوفر فرصة ممكنة، ولكن يتم تدميرها ذاتيا بكل مهارة.
السعوديون والأمريكيون قد يكونون مستعدين لدعم حل، لكن كيف يمكن لدولة أن تُنقذ نفسها إذا كان قادتها بارعين في إفشال كل محاولة للإنقاذ؟
لنخلص إلى أن اليمن لا ينقصه اتفاق، بل تنقصه نخبة سياسية تدرك معنى اللحظة التاريخية. حتى ذلك الحين، ستظل الميليشيا موحدة، بينما الشرعية تتقن فن التناحر، وسيبقى الوطن معلقا بين الممكن والمستحيل، إلى أن يقرر أحدهم—بمعجزة ما—أن المصلحة الوطنية أهم من الحسابات الصغيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى