رمضان بين الرؤية الفلكية والرؤية الإنسانية: أزمة الأولويات في المجتمعات الإسلامية

Author Icon توفيق الحميدي

مارس 1, 2025

مع بداية رمضان، تتكرر المشاهد ذاتها؛ نجتمع أمام شاشات التلفاز نترقب إعلان رؤية الهلال. وما إن يعلن دخوله، حتى تعم الفرحة، وتتوجه الجموع إلى المساجد لصلاة التراويح، وتبدأ الطقوس الرمضانية التي تجعل الليل نهارًا والنهار ليلًا.

لكن وسط هذا المشهد، يظل الجدل حول ثنائية الحساب الفلكي والرؤية البصرية محتدمًا، بلا حسم، يتكرر كل عام كأنه قضية مصيرية، رغم أنه لا يرتكز على وعي عميق من كلا الطرفين.

وفي خضم هذا الجدل، تصلني رسائل تحمل أوجاعًا أشد قسوة؛ أصدقاء أرهقتهم الحرب والجوع، صورٌ لأطفال يتزاحمون عند إشارات المرور وأبواب المطاعم، رجال يرتدون معاطف مهترئة بحثًا عن الدفء، وأسر تنبش في مكبات النفايات بحثًا عن بقايا الطعام. هؤلاء لا يسألون عن الهلال، بل يسألون عن لقمة تسد جوعهم.

غاب هلالهم عن حياتنا المنشغلة، ولم يعد للحياة سوى بعد واحد: “الأنا”. حتى العبادة لم تعد سوى ممارسة فردية محصورة بين الإنسان وربه، دون أن تمتد إلى رؤية الهلال الحقيقي في المجتمع، حيث الجوع والحرمان.

جدل بلا حلول: ماذا نرى؟

كل عام، يحتدم النقاش حول رؤية الهلال، لكنه يتم على حساب قضايا أكثر إلحاحًا، مثل الفقر والعدالة الاجتماعية. ننشغل بحشد الأدلة لإثبات صحة هذا الرأي أو ذاك، بينما لا نجد الحماسة نفسها عند الحديث عن نصرة المظلومين، أو مواجهة الفساد والاحتكار، أو محاربة الثراء الفاحش الذي يصنع فجوة طبقية تتسع كل يوم.

لقد أدمنّا هذا الواقع منذ نعومة أظافرنا حتى فقدنا الإحساس به، ولم نعد نواجهه إلا عندما يُستغل سياسيًا، في مناسبات تحركها الأحزاب والقوى المنتفعة. وعندما يحلّ رمضان، شهر الإحسان، ننغمس في استهلاك مفرط، نبرره بأنه “لأجل الجنة”، لكنه في الحقيقة يعكس فجوة أخلاقية عميقة؛ فنحن نُسرف فيما لا نحتاج، بينما ملايين المسلمين تحت خط الفقر.

ماذا لو كان جزء من هذا الإنفاق موجهًا للفقراء، لا كصدقة عابرة، بل كالتزام مستدام؟ وماذا لو أدركنا أن الإحسان ليس مجرد إحساس لحظي، بل مسؤولية دائمة؟ إن أخطر ما أصاب الأمة هو غياب الوعي السياسي، فحين غاب “هلال الوعي”، خيّم الفقر والاستبداد. فهل أصبح النقاش حول الهلال مجرد ستار يخفي القضايا الحقيقية؟

التفاوت الطبقي في شهر المساواة

في غياب الوعي، يتحول رمضان من شهر التكافل إلى موسم استعراض طبقي. فالموائد الفاخرة تتكدس، والإعلانات الضخمة عن المشاريع الخيرية تملأ الشاشات، فيما يبقى الفقراء على الهامش.

رسول الله ﷺ قال: “من فطّر صائمًا كان له مثل أجره”. لكنه لم يكن يقصد الولائم التي تُقام للنخب والأصدقاء والمؤسسات، بل الفقير الذي يتضور جوعًا، والذي تحجبه عاداتنا الاجتماعية عن موائدنا إلا عندما نحتاج إلى “إثبات” كرمنا.

الفقراء في رمضان ليسوا جزءًا من المشهد، بل مجرد تفصيل هامشي؛ يُطرق الباب عليهم بالطعام، أو تُرسل إليهم الصدقات، لكنهم لا يُدعون ليكونوا جزءًا من الحياة الاجتماعية. إنهم خارج الصورة، في عالم آخر، بينما تتحول العبادات إلى مجرد طقوس تعمّق الاختلال الاجتماعي بدلًا من تصحيحه.

ثقافة الاستهلاك مقابل فلسفة الصيام

رمضان ليس مجرد امتناع عن الطعام، بل تجربة لإعادة ضبط القيم المجتمعية. لكن ما يحدث أن الصيام يُختزل في الامتناع عن الأكل نهارًا، والانغماس في الاستهلاك ليلًا.

الكثير من الخطاب الديني يبقى مكررًا، لا يتطور مع الواقع، وكثير من المؤسسات الدينية تروج لفكرة الإحسان كفعل موسمي، بدلًا من كونه التزامًا مستدامًا. فالموائد الرمضانية تُقام، والتبرعات تُجمع، لكن بمجرد انتهاء رمضان، يعود الجميع إلى صيامهم عن الدور الاجتماعي.

والأغرب أن بعض موائد الإفطار الجماعي تتحول إلى مظاهر إسراف تناقض فلسفة الصيام نفسها. فكيف يمكن أن يكون رمضان فرصة للزهد، بينما موائده تشهد البذخ؟ وكيف نبرر التكافل إذا كان محصورًا في موسم، بدلًا من أن يكون منهج حياة؟

إعلام رمضان: تسلية أم وعي؟

في شهر يفترض أن يكون شهرًا للوعي والتأمل، تتحول الشاشات إلى ساحات للترفيه، حيث تُنفق الملايين على المسلسلات والبرامج التي لا تعكس هموم الناس، بينما تظل البرامج الهادفة في زوايا النسيان.

رمضان هو شهر القرآن، لكنه لا يحظى بمساحته الحقيقية في الإعلام. وبدلًا من أن يكون فرصة لفتح حوار حقيقي حول قضايا المجتمع، يصبح مناسبة لإنتاج المزيد من التسلية الفارغة، وسط عالم يغرق في “الميوعة المرجعية”، ويعاني من غياب الوعي الحقيقي.

هل يمكن أن يصبح الإعلام أداة إصلاح بدلًا من مجرد وسيلة لإلهاء الناس؟

رؤية إنسانية جديدة لرمضان

رمضان ليس مجرد شعيرة دينية، بل اختبار أخلاقي واجتماعي. العبادة ليست طقوسًا، بل مسؤولية، والفقر لا يُعالج بموائد مؤقتة، بل بعدالة دائمة.

لا يمكن أن يكون العدل مجرد لحظة إحسان عابرة، بل يجب أن يكون التزامًا لا يتوقف. وكما قال عمر بن عبد العزيز: “انتشرت عدالة الإسلام يوم أشبعنا الجياع”.

فهل نحن مستعدون لجعل رمضان نقطة تحول حقيقية، أم أنه سيبقى موسمًا للاستهلاك والاستعراض؟

الخاتمة: رؤية الهلال، رؤية الضمير

رمضان فرصة لمراجعة الذات، لكنه أيضًا مرآة تعكس حقيقتنا. الهلال سيظل يظهر كل عام في السماء، لكن ماذا عن الذين لا يجدون قوت يومهم؟

ليس المهم متى نرى الهلال، بل متى نرى هلال الرحمة بالفقراء؟

زر الذهاب إلى الأعلى