كتاب " تكوين العقل العربي " الذي غيرني

Author Icon حسين الوادعي

فبراير 22, 2025

‏لطالما كرهت سؤال: “لو ذهبت إلى جزيرة نائية وطُلب منك أن تختار كتابًا واحدًا فقط، فما هو هذا الكتاب؟”. لكنني الآن أشعر بثقة عالية في الإجابة على هذا السؤال البغيض، واختيار كتاب “تكوين العقل العربي” لمحمد عابد الجابري.

بعض الكتب تُثقّف، وبعضها تُعلّم، وبعضها تستفز، لكن الكتب التي تُغيّر قليلة. ولعل أصدق وصف لهذا الكتاب هو ما قاله جورج طرابيشي: هذا الكتاب يغيّرك، وبعد قراءته تصبح شخصًا مختلفًا عمّا كنت قبله. وهذا الكتاب غيّرني مرات.

غيّرني عندما قرأته أول مرة في تسعينيات القرن الماضي، حين استوعبت كم أن عقلنا “مستقيل”، ومحكوم بعصر التدوين العباسي، وأن الأعرابي يعيش فينا دون وعي منا، وأن الزمن العربي زمنٌ ثنائي يتكوّن من بعديْ الماضي والحاضر، مع الغياب التام لبعد المستقبل.

وغيّرني عندما قرأته للمرة الثانية، فلفت انتباهي إلى “صناعة” اللغة العربية، واختلافها عن لغة الشعب ولغة القرآن. وغيّرني للمرة الثالثة عندما استذكرته في معمعان الربيع العربي، حين نبّهني إلى أن التغيير عندنا قد يتمّ على أساس أيديولوجيا رجعية، وأن المصير قد يكون أكثر رجعية من الديكتاتور، وأن التحرير بأيديولوجيا رجعية هو انتحار اجتماعي وفكري وسياسي.

ولو أردت إحصاء موجات التغيير التي أحدثها هذا الكتاب في حياتي، لما استطعت. وحسبي أن أستذكر جورج طرابيشي مرة أخرى، إذ غيّره الكتاب مرتين: مرة عندما تبنّى أطروحاته وصار الجابري صنمه الفكري المعبود، حسب تعبيره، ومرة عندما تمرّد على أطروحاته وخصّص عشرين سنة من حياته وأربعة كتب للرد عليها.

فالكتاب الحقيقي هو الذي يغيّرنا، سواء كان هذا التغيير معه أو ضدّه. والكاتب العظيم هو الذي يدير عقولنا مع طروحاته وأفكاره قبولًا ورفضًا، وليس ذلك الكاتب الذي يأسرنا بسلطته. والجابري من القلة النادرة من المؤلفين العظماء في ثقافة صعبة ومغلقة.

زر الذهاب إلى الأعلى