أيام في مملكة السماء

Author Icon محمد علي محسن

يناير 23, 2025

علي ، شاب ريفي على الفطرة ، فمن البيت إلى الوادي ؛ إلى المرعى ؛ إلى جامع الصلاة . عالمه مختزل في هذه الأمكنة . الجبال المنيفة اعتاد صعودها ، حفظ دروبها كحفظه لأسماء الشياه .

ومثلما كانت ترانيم قيثارته تتضوع في الوديان وتشجي القلوب ؛ كان صوت آذانه للصلاة تغاريد بلابل في لجة ظلمة المساء والفجر.

وهكذا بقي حاله ، في النهار يرعي الغنم في الجبل ،وفي ساعات المساء بين مسكنه البسيط ، وبين جامع القرية .
وذات يوم مشؤوم حدث أن عثر في الجبل على مقذوف من مخلفات الحرب الكونية الثانية ، أو ربما الأولى ، ففي ذاك التاريخ لم تشهد القرية حركات أو مواجهات عنيفة .

الفضول دفعه لنزع رأس المقذوف عن قاعدته النحاسية كي يحشوها بطرف عصاه ، رفع حجرة إلى فوق رأسه وهوي بها إلى بطن ذاك الشيء ، فانفجر وتناثرت شظاياه في نواحي عدة ، بعضها اخترقت صدره وبطنه .
صرخ متاوهًا ، نادى مستغيثًا بالله إلى أن خفت صوته ، وخارت قوته ؛ فسقط مغشيًا عليه في مكان ليس ببعيد .
أول من سمع تأوهاته أُمُّه ، فؤادها زاد خفقانه ، وهذا نذير شؤم أعتدن الأمهات الفزع لحدوثه، وإلَّا كيف بلغها الصوت ومن تلك المسافة ؟ .

عندما صعد الأهالي وجدوه مضرجًا بدمه ، فتمَّ حمله إلى حيثما يرابط فيه جنود الإنكليز ، وبسبب حالته الحرجة وصلت طائرة مروحية ، هبطت وسط ذهول وفزع القرويين .

أخذت الفتى الفاقد وعيه ، حلَّقت في السماء ، شيعتها العيون إلى أن اختفت . كانت وجهتها ناحية عدن، المدينة المتلالئة بالأضواء ، الصاخبة بأصوات البشر والسيارات والسفن .

وبعد ساعة تقريبًا وصل المطار الحربي في خور مكسر، حملته سيارة إسعاف مباشرة إلى المستشفى العسكري الكائن في منطقة الفتح بالتواهي " مستشفى باصهيب حاليا " .
أجريت لعلي عملية جراحية معقَّدة ، استخرج الطبيب بضعة شظايا ، توقف النزيف ، وتم ضخ كمية من الدم إلى قلبه تعويضًا عمَّا فقده في الحادثة .
أول ما استفاق " علي " من غيبوبته ، فتح عينيه على وجهي حوريتين ملائكيتين مبتسمتين ، وعلى باقة ورد موضوعة بعناية بجوار موضع رأسه .
كان مازال مشوشًا ، رأتاه تشهقان وتزفران في شيء يغطي فمه وأنفه دونما يفهم كنته ، أو يدرك مصابه ، أو وجوده .
وبمضي الوقت بدأ يسترد وعيه ، لكنه لم يستوعب أنه في غرفة إنعاش في منشأة طبية ، فكلما جال ببصره رأى فتاتين جميلتين تحفانه بابتسامة عذبة .
ظنَّ أنه في الفردوس ، من أين له فهم واستيعاب موته وعودته للحياة ، وأن الحوريتين المشعتين بياضًا ونورًا ليس سواء مناوبتين تؤديان واجبهما المعتاد ؟! .

بقي الشاب الطيب على اعتقاده عائشًا في نعيم الفردوس ، حاول أن يصغي لحوار الفتاتين دون أن يفهم كلمة واحدة ، لأول مرة يدرك أن حوريات الجنَّة لا يتحدثن لغة أهل الدنيا .
ظل يبادلهن الإبتسامة ، رافعًا يديه شكرًا لله على جنَّة النعيم .

في اليوم الرابع نُقل إلى غرفة في الناحية المطلة على المحيط ، أول ما لفت نظره في الأفق هو رؤية زرقة الماء ، كانت دهشته بلا حدود ، فلم يكن في تصوره أن حوض الجنة بهذه السعة والبهاء .

عاش " علي ' أيامًا في الفردوس ، يغازل الفتيات الأنيقات ، فتاة تطعمه بملعقة وشوكة ، وفتاة تأتيه بباقة زهور . في الصباح تصافحه فتاة بابتسامة عذبة ، وقبل نومه تودعه فتاة بغمزة تفلق الصخرة ..

وهكذا أمضى أيامه الخمسة في مملكة السماء ، بين الملائكة والحوريات ، ظل قلبه مفتوحًا ، وشفتاه ولسانه لاهجة بآيات من سورة الغاشية : وجوهٍ يومئذٍ ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنِّة عالية " .
وذات عصر افاق على وجه " سعيد " أحد معارفه ، كان شابًا لاهيًا لعوبًا طالما ضاق من قصص مجونه ، كان جنديًا في الجيش الإنكليزي .
حين رآه " علي ' نهض فزعًا ، وبلسان منفلت ، وجسد مرتعش أخذ يهذي : الله أكبر ، الله ما أعظمك ، سبحانك ربي ، وسعت رحمتك السموات والأرض ، ما توقعت قط أن يكون لك يا سعيد العربيد موضعًا في نعيم الفردوس " .
غرق سعيد في نوبة ضحك مدوية خارقة لسكينة المكان ، قال مخاطبًا صديقه وابن قريته : سلامتك يا علي من الجُنان ، انا وأنت في مشفى الجيش بعدن " .

 

زر الذهاب إلى الأعلى