لبنان والمسألة الثقافيّة قبل نكبة «حزب الله» وبعدها
في عمود له نشرته مجلّة «المجلّة»، تناول الزميل حسام عيتاني «محور الممانعة» متسائلاً: «مَن يذكر كتاباً أصدره مفكّر أو كاتب محسوب على المحور ويستحق القراءة؟». ولنا أن نضيف إلى الكتاب المفقود، الفكرة والقصيدة والرواية واللوحة والمسرحيّة والفيلم والأغنية...؟
هذا السؤال ما كان ليُسأل أصلاً لو كان اهتمامُ «المحور» والناطقين بلسانه بالشأن الثقافيّ معدوماً. لكنّ التجارب الكثيرة تفيد أنّ أولئك الذين لم يصدروا كتاباً، يملكون موقفاً حديديّاً، صارماً وشاملاً، من الشأن الثقافيّ اللبنانيّ لا يلخّصه شيء كتعبير الرقابة. فهم ضدّ من ينشط ثقافيّاً على نحو «لا يدين العدوّ»، أو «يخدم العدوّ»، أو «يشارك العدوّ مؤتمراً أو مهرجاناً»، أو «يتحدّث إلى صحيفة للعدوّ»... و»العدوّ» هو تعريفاً الإسرائيليّ، أيُّ إسرائيليّ وكلُّ إسرائيليّ، ربّما باستثناء عشرة أسماء مناهضة للصهيونيّة ومنحازة «لنا». لكنّ المفهوم الهجائيّ قابل للتمدّد بحيث يشمل المتّهمين بـ»التواطؤ» مع العدوّ، أو «إسناده» أو «التعاطف» معه، أو شراء سلعة صنعها «حلفاء» له، أو الجلوس في مقهى يديره «شركاء» له، أو حتّى مصافحة فرد من أفراد ذاك العدوّ...
والهيئة الرقابيّة، وهي طبعاً غير منتخبة ولا تملك أيّة صفة رسميّة، خوّلها «عشق فلسطين»، الذي زعمتْه لنفسها، أن تمارس عملها هذا لسنوات، بحيث تمنع فنّاناً من زيارة لبنان، وتحرّم عرض فيلم أو إقامة أمسية أو ترجمة كتاب، كما يحقَّ لها، من غير أن يسائلها أحد أو يستدعيها إلى المحكمة، أن تشهّر بهذا أو بذاك تبعاً لمعاييرها أعلاه.
وبالطبع فنحن هنا لسنا أمام رواية للتاريخ والعالم تبرّر لأصحابها قمع سواهم ممّن يخالفون تلك الرواية. فرقابيّةٌ كهذه هي ما رأيناه، مثلاً لا حصراً، مع الستالينيّة في استخدامها مَسطرة الماركسيّة – اللينينيّة لتحديد من هم «أعداء الشعب». أمّا رقباؤنا فمعظم أفعالهم تمليها عاديّات الحياة ويوميّاتها: مصافحة ومؤاكلة وزيارة وشراء سلعة وجلوس في مقهى...
وفي السياق المفعم بالترميز هذا، استُهدف بالتشهير أحد أهمّ روائيّي لبنان، أمين معلوف، وأحد أهمّ سينمائيّيه، زياد دويري، وأحد أهمّ مسرحيّيه، وجدي معوّض، وكثيرون غيرهم. أمّا في أرقى أحوال التشهير، فكان يُرفع في وجوه المُشهَّر بهم «القانون» في أشدّ تأويلاته ضيقاً وسلطويّة. وهذا مع العلم بأنّ التذرّع بالقوانين، ولو في أكثر أشكاله طلباً لإحقاق الحقّ، يبقى عرضة للطعن والتشكيك في ظلّ استيلاء «حزب الله» على الدولة وعلى تأويل القانون.
والرقباء هؤلاء لو امتلكوا حساسيّة ثقافيّة محترمة لراعَهم مشهد الحشود التي يجمعها لون واحد، فتهتف بصوت واحد، وترفع قبضات أيديها بحركة واحدة، معلنةً استعدادها للموت فداء لقائد معبود واحد. وهو، في آخر المطاف، مشهد آلاتٍ روبوتيّة لا تُرينا مثلَه إلاّ صور الحشود الشهيرة في مهرجانات الزعماء الفاشيّين.
لكنْ فوق هذا، تترافق حالة الحشود مع ملء رؤوسها بأفكار هي في غاية الرجعيّة والخرافيّة والعداء لكلّ إصلاح وتحرّر ثقافيّين، ممّا لا يحضّ رقباء الممانعة على أدنى نقد أو تحفّظ. والمفجع أنّ أحد مكوّنات بيئة الرقباء أولئك حزبٌ أسّسه «زعيم» عنصريّ سبق له أن فسّر «انحطاط» العرب في شمال أفريقيا بتزاوجهم مع السود. والحزب هذا لا يزال يرفع علماً يشبه الصليب المعقوف النازيّ ويعتبر كلّ يهوديّ عدوّاً لنا «يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقّنا»، مميّزاً أصحاب الجماجم المفلطحة عن أصحاب الجماجم المستوية. أمّا تعاطف البيئة تلك مع نظام بشّار الأسد، ومع أنظمة أخرى مشابهة، فلا يقال فيه سوى أنّه ميل قويّ إلى الرقابة ومناهَضة الثقافة، وهذا قبل أن تأتينا الأسابيع الماضية بأخبار المقابر الجماعيّة وكَبس الجثث وتمليحها في سجن صيدنايا.
والحال أنّ مناهَضة الثقافة، في حالتها اللبنانيّة، تغلّب ركيزتين نقع عليهما في سائر أشكال مناهَضة الثقافة:
فأوّلاً، هناك العداء للحرّيّة، وهو في لبنان خصوصاً يفضي إلى العداء للبنان نفسه الذي يفقد كلّ معناه من دونها. فقضيّة الحرّيّة، أقلّه في البيئة الثقافيّة اللبنانيّة، يُفترض أن تفوق أيّة قضيّة أخرى أهميّة ونبلاً، وبالقياس عليها تحرز القضايا الأخرى أهميّتها أو تفقدها.
وثانياً، هناك إطلاقيّة العداوة التي يُغني التشبّع بها عن الاهتمام بالجهد الثقافيّ وعن تعريفنا بغير العداوة تالياً. فـ»العدوّ» سيبقى عدوّاً إلى الأبد، و»العداوة» معه، وهي ركيزة العلاقات البشريّة، ليست محصورة بحدود أو أرض أو زمن أو حقوق ومصالح. لا بل هو مَن لا تجوز عليه «الأنسنة»، ما يجعله، تبعاً لوعي دينيّ مُعلمَن، شيطاناً أو جنّاً. وليس هناك ما يلخّص هذه النظرة المريضة إلى العالم وأشيائه كتعبير «ثقافة المقاومة» التي لا تملك من الثقافة إلاّ مناهضتها وطيّ صفحتها.
إنّ كسر هذا التسلّط الثقافيّ اللاثقافيّ، وهو امتداد لتسلّط السلاح، يستحقّ النظر إليه كجزء حميم من كسر تسلّط السلاح. وأغلب الظنّ أنّ أكثريّة اللبنانيّين الساحقة تريد هذين الكسرين معاً.