الميثولوجيا والدم العربي

Author Icon محمد الرميحي

نوفمبر 14, 2024

اليمني الجديد

يحكم فضاءنا السياسي العربي ميثولوجيتان ضاربتان في الخرافة، الأولى إسرائيلية، والثانية إيرانية، الأولى تعتمد على تاريخ بالغ في الأسطورية، وكذلك الثانية.
الأولى تنطلق من قصة إبراهيم وزوجته سارة التي تأخرت في الإنجاب فقررت أن تزوّجه خادمتها (يُقال عبدتها) هاجر، فولدت إسماعيل، وبعد أن تقدّمت سارة في العمر، رُزِقت بإسحاق؛ الأول أب العرب من "الجارية"، والثاني أب اليهود من "الحُرّة". وهنا ظهرت خُرافة "الشعب المُختار" الذي يملك مطلق الحرية في قتل أحفاد "ابن الجارية"، والتمثيل بهم باسم التفوّق العرقي والخرافي معًا!.

وفي الثانية، لم تقبل الميثولوجيا الفارسية أن يكون "الأعراب" (في مفهومهم) هم من يقدّمون لهم الدين الحنيف، لذلك فإنّ اسمهم في ادعاءاتهم "الاستعمار العربي" أو للتخفيف "الغزو العربي"!

مع مرور الزمن، اتخذت تلك الميثولوجيا أشكالًا من التطور، فمنظر الأطفال الفلسطينيين في غزّة وهم يتسابقون، كما يراهم العالم، على قطعة خبز، ورشفة مرق تُطبخ في أوانٍ ضخمة لتُلقى قطراتها في حلوقهم، وهم يحملون طناجرهم في أيديهم في صورة تقشعر لها الأبدان، هذا المنظر هو أمر طبيعي لدى "أبناء الستّ"، فليسوا (الفلسطينيون) هم إلا "أبناء الجارية" ويحق قتلهم جوعًا! إن لم يتحقق قتلهم بالقنابل الحارقة.

على مقلب آخر، يرى المرحوم حسين أمير عبد اللهيان وزير خارجية إيران السابق، في كتابه "صبح الشام"، أنّ تدخل إيران في سوريا، هدفه الحفاظ على "مرقد السيدة زينب". وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول وأحداث غزّة، عرض المرحوم نفسه على العالم اقتراحًا بتبادل الأسرى بين إسرائيل و"حماس" في طهران... نعم في طهران لا غير! تكسّبًا سياسيًا لا غير! واستعدادًا للصفقة.

في لبنان، ينتظر الكثير من المواطنين "تغريدات" أفيخاي أدرعي (الناطق باسم جيش العدو الإسرائيلي)، لمعرفة أي المساكن أو المباني سوف تقصف، بعد دقائق وبمجرد التنويه عن هذه الأماكن، ترصد الطائرات المسيّرة زرافاتٍ من البشر تسعى سريعًا للخروج من تلك المباني والمناطق بأقل ما يستطيعون حمله من حاجات ضرورية تائهين هاربين، في منظر كئيب لمن يشاهد ذلك الخروج المحزن، إذ لم يحصل في الحروب مثل هذه الصور القاتمة.

إنه الدم العربي المسكوب في كل من غزّة والضاحية الجنوبية لبيروت، وفي أماكن أخرى، وهو دم "أبناء الجارية" من جهة ودم "الأعراب" من جهة أخرى، وهو رخيص... رُخص التراب عند الطرفين (الإسرائيلي والإيراني).

هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يحاربون الشر أو شريحة منه، هم في الحقيقة ضحايا الميثولوجيا، قد سلكوا تلك الطريق من خلال التضليل، إما بسبب ضيق قاتل وانسداد أفق، كما في غزّة، وإما بسبب التلويح بميثولوجيا جديدة تتبنّى الكثير من الأفكار الوهمية، ومعها الكثير من التمويل، كما أفراد "حزب الله"، أن اذهبوا وقاتلوا ونحن هنا مستعدون لإجراء الصفقات!.

كم يُقتل من أهل الجنوب اللبناني ليس مهمًا؟ المهم أن يتغنّى الرؤساء بالانتصار... وكم من اللبنانيين يضيق عيشهم ليس مهمًا أيضًا؟ وكم من البشر ينامون في شبه خيم على الطرقات في عاصمة النور العربية السابقة بيروت ليس مهمًا كذلك.

لا أحد يُلام غيرنا، فقد اعتدنا الدخول في صراعات لم نستعدّ لها، واتّبعنا أفكارًا هي في الغالب أوهام كانت تسمى "النصر الإلهي"، فخُربت الأوطان بأيدي أبنائها، وشارك في حروبها مَن حمل السلاح ومَن حمل تلك الأفكار/الأوهام وحزمة من السياسيين النفعيين، والذين كانت جيوبهم أهم من أوطانهم!

المأساة التي نواجه، أنه لا أحد باستطاعته التكهن بنتائج هذه الصراعات، إلا أنها كارثة سوف تحوّلها الميثولوجيا إلى انتصارات!... وعظّم الله أجركم في الأوطان والبشر.

يبقى المخرج العقلاني في عودة الوعي والخروج الجماعي من الخرافة القاتلة.

Back to top button