من إجماع واشنطن إلى إجماع بكين
ينتقل العالم تدريجيّاً من إجماع واشنطن Washington Consensus، أي قواعد الاقتصاد والسياسة الأميركية التي سادت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى إجماع بكينBeiging Consensus . الانهيار المفاجئ الذي أصاب السوق "النيوليبرالية" في العامين 2008-2009 فتح الطريق لما بات يعرف منذ ذلك الحين بإجماع بكين، أو النموذج الصيني في الاقتصاد والسياسة. في تلك الساعات الحرجة من العام 2008 كتب فوكوياما عمّا أسماه ليبرالية رعاة البقر، بعد عقدين من دراسته الشهيرة حول تلك الليبرالية بحسبانها النهاية السعيدة للكد والسعي البشري نحو الكمال.
يقوم النموذج الصيني، كما يجادل المفكر الصيني فيكتور غاو، على دفع عجلات السيارة الأربع في اتجاته واحد من خلال نظام قوي وكفؤ. وهو بذلك، يقول غاو، يقدم نموذجاً أكثر جدارة من ديموقراطية تفضي إلى ثمان حكومات خلال ثمانية أعوام. الإبدال الذي تقدمه بكين للديموقراطية هو "الجدارة السياسية"، منظومة حكم تقوم على الكفاءة والاحترافية، كما لاحظ دانييل بيل في بحثه المهم حول "نموذج الصين". الأسيون، وليس الصين وحسب، يتحدثون عن القيم الأسيوية، تلك التي تضع المجتمع وليس الفرد في المركز كما جادل لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافوره الأسبق. وإذا كانت الديموقراطية الغربية، وفي مركزها مدونة حقوق الإنسان، تلائم الحياة المتحلّقة حول الفرد، فإن ما سيلائم الأمم التي تضع المجتمع قبل الفرد سيكون مختلفاً.
يراهن النموذج الصيني على تحدي الديموقراطية الليبرالية مدّعياً أن نظاماً شمولياً فاعلاً سيكون بمستطاعه أن ينجز المهمة الأساسية: رفع مستوى الرفاه، وحماية السلم الاجتماعي. عملت الصين بدأب على الترويج للفكرة، وباتت الليبرالية الغربية تدرك أن النموذج الصيني قدم إنجازاً اقتصادياً غير مسبوق في التاريخ البشري، إذ نقل خلال ربع قرن ما يزيد عن نصف مليار نسمة من الفقر إلى الرفاه. إلى جانب الصين قدم الأسيويون بشكل عام "أكثر معجزات التنمية استدامة في القرن العشرين" وفقاً لتقرير للأمم المتحدة. السحب الصينية تلقي بظلالها على العالم الغربي الممتد من برلين إلى واشنطن، وفي ألمانيا بات الحديث دارجاً حول ما الذي سيبدو عليه العالم حين تكتب دولة سلطوية قواعده وترسم حدوده.
قبل وقت قريب نسبيّاً كتب توماس فريدمان، على نيويورك تايمز، مخاطباً الأميركيين: استعدوا، نحن نتراجع إلى المركز الثاني. تفرض الصين إجماعها على المركز الأولى في طيف واسع من الإنجازات، من تصدير السيارات، حيث احتلت المركز الأول عالمياً بما يزيد عن نصف مليون سيارة شهرياً بحسب فايننشال تايمز، إلى إنتاج الطاقة المتجددةحيث تتصدر دول العالم استثماراً وبذلاً في هذا المجال. إذا نظرنا إلى البينات التي نشرتها مؤسسة Statista الألمانية المتخصصة في الدراسات الإحصائية فسنجد أنفسنا أمام رقمين عامرين بالدلالة. الأول: استهلكت الصين في العامين 2023 طاقة بمقدار 170.8 إكساجول، مقابل 94 للولايات المتحدة، و11 لألمانيا. أما إجمالي ما استهكلته من الكهرباء في العام 2022 فبلغ 8 آلاف تيرا-وات، مقابل 4 لأميركا، و1.3 للهند. هذا ما يبدو عليه مصنع العالم، التحدي الاستراتيجي الأكثر تعقيداً للعالم الغربي. تستهلك كل تلك الطاقة تحت سقف كبير مساحته تداني مساحة الولايات المتحدة، وينعم باستقرار سياسي مشهود.
لم يعد ممكناً إيقاف الصين ولا منافستها. ففي العام 2011 ضحك إيلون ماسك عالياً حين سألته مذيعة بلومبيرغ عن رأيه بالسيارات الكهربائية الصينية. مؤخراً أطلق ماسك نداءً إلى الحكومة الأميركية يطالبها بضرورة فرض تعريفات ضد السيارات الكهربائية الصينية، قائلاً إن ترك الأبوب مفتوحة أمامها سيجعلها تقضي على كل منافسيها. فالصينيون "ينتجون سيارات كهربائية رائعة جدّاً"، بحسب كلماته كما نقلتها رويترز.