من جمهورية دثينة إلى عدن
أهداني الصديق الشاعر والأديب اليماني المهاجر في قطر " نجم شرف الدين " نسختين إلكترونيتين من كتابي الرئيس الأسبق علي ناصر محمد " الطريق إلى عدن " و " ذاكرة وطن والوحدة اليمنية " ، ولكم كانت دهشتي ومتعتي بمحتوى ما سطره الكاتب عن رحلته من دثينة في أبين الى بندر عدن .
أربعة أيام قضيتها متمتعًا بكل جملة وسطر من الفصول الثلاثة عشرة ، وكأنَّني إزاء فيلم مصور ووممنتج وفق أحدث التقنيات السينمائية الهوليودية البوليودية .
نعم رحلت مع الكاتب وطفت معه وبشغف ومتعة مناطق وشعاب وجبال وقفار ورمال وبحار في مساحة شاسعة من بلادنا الغالية .
أكملت الكتاب البارحة ، وكان بودي إلَّا تنتهي صفحاته من شدِّة إعجابي به ، وبمعلوماته الكاثرة الجديدة والمشوّقة ، فلم تقتصر الذكريات على رحلة الفتى الريفي من مسقط رأسه في قرية ' أمفرعة " في دثينة إلى عدن البندر والأضواء .
فعلى لسان قائد رحلة العيس العم " سليمان " ورفيقه احمد مسعود برطم أخذنا الكاتب إلى عوالم لا متناهية ، من الذكريات الزاخرة بالدهشة ، والجَمَال ، والفرح ، والألم ، والشعر ، والثأر ، والزراعة وفصولها ، والمطر ومواسمه ، والعادات والأعراف القبلية وارتباط الناس بأرضهم ووالخ من الموروثات الفلكلورية والذكريات التي لم تقتصر على جيل أو عصر بعينة ، وإنَّما ذهبت إلى تواريخ زمنية موغلة بالقدم .
تبدأ القصة - وهي أقرب إلى ادب الرحلات - بالطفولة في القرية . ومن ثم انطلاقة الرحلة إلى عدن ، وكيف دخل الإنكليز إلى دثينة ، مستعرضًا عادات وأعراف المجتمع البدوي ، وكلَّما دخلت الرحلة منطقة أو باتت فيها ، شرع العم سليمان يحكي قصة المكان والناس والزمان .
فمن سلطنة الفضلي ، إلى الزراعة والمجاعة ؛ إلى مائدة الجراد المشوي ؛ إلى آل الظهر وبيت البسم ؛ إلى شقرة ؛ إلى السفر ليلا وحكايات السيارات ؛ إلى المسيمير والقطن والغجريات ورقصهن وقصصهن مع عُشَّاقهن ؛ إلى الكائن الأسطوري ؛ وصولًا إلى المحطة الأخيرة الشيخ عثمان ، نسبة للولي الصالح الشيخ عثمان بن محمد التركي ، صاحب المقام في بقعة قفرة أضحت فيما بعد مدينة تحمل اسمه إلى أن يشاء الله .
الرحلة دامت أسبوعًا كاملا ، قطعت جمالها ورجالها ٢٠٩ كيلو مترًًا ، وهي المسافة الفاصلة بين دثينة وعدن ، وبالنظر لحجم المؤلَّف فإن القاريء سيجد ذاته قاطعًا مسافات زمنية تتعدى القرن العشرين إلى قرون سحيقة .
شخصيًا كانت مساحة معرفتي لا تتعدى الكود وزنجبار وبعض المعلومات الضئيلة ، أمَّا وبعد إطلاعي على كتاب " الطريق الى عدن" فيمكن القول أنني عرفت أبين بكل قراها ، ومدنها ، وجبالها ، وسهولها ، وقبائلها ، ورجالها ونسائها ، وأعرافها وتقاليدها .
وأكثر من ذلك عشتُ فيها ، وعشقتُ ، وأحببتُ ، ورقصتُ ، وأكلتُ مع ناسها " المخلم " ، والعصيدة والمعصوبة بالسمن والسمسم والعسل ، ورددتُ مع البتول في موسم البذار اشعار الحميد بن منصور ، ودخنتُ الرشبة أو المداعة مع العم سليمان ، واضحكني برطم بتعليقاته الهازئة العفوية .
وتعاطفتُ مع ' شمعة ' وعشقها الممنوع الذي كلَّف إخوتها وأهلها جميعا في ' دثينة ' الدم والدموع بسبب الثأر بينهم وامتد لخمسين عامًا .
و " بلاء شمعة " لم يأتِ هذا القول من فراغ ، والكاتب لم يخطِ حين ماثل مأساة الإخوة بشواهد مؤلمة من تاريخنا ، مكتفيًا بالاشارة إلى " داحس والغبراء" وكذا " ناقة البسوس " .
ولابد هنا من الإشارة إلى أنَّ شعورًا خالجني أثناء قراءتي لهذا الكتاب البديع ، إذ خُيِّل لي أن معظم ما كتبه المؤلِّف يتطابق تمامًا مع الموروث الشعبي في " جبل جحاف " بالضالع ، أو سواها من مناطق اليمن المختلفة والزاخرة بمثل هذه العادات والتقاليد الإجتماعية ، والأسماء الغزيرة لكل قطعة أرض وهضبة ومجرى ومرعى .
فبإستثناء النطق لبعض الحروف مثل " الغين " التي ينطقها أهل دثينة " أ " أسوة بأهل مدينة الضالع ، وكذا حرف " الضَّاد " الذي ينطقه ربع دثينة ب " اللام " المفخَّمة، أو " ال ' التعريف وينطقونها مثل أهل تهامة " إم " فضلًا عن اسماء مواعين وأوعية ؛ أجزم أن ألحياة الاجتماعية في دثينة لا تختلف عن الحياة في أي منطقة ريفية في اليمن .
كأنَّ الكاتب سرد قصة قريتنا في جبل جحاف ، فالضِّمد ، والهيج ، والذراة ، والمَلبَج ، والتِفال ، والمَسرفة ، والمَعصُوبة ، والتلم ، والجنبية ، وحلاوة المضروب اللحجي ، والحِناء وطرق استخدامه ، والعسل وأنواعه ، والبَرَع ، وشجرة السدر وعظمتها وفاكهتها " الدوم " ، والألعاب الشعبية ، جُبنة القهوة ، الصَحفة ، الجلب " مخزن القصب " الجحُف " ثمرة القرع " ، مدافن الحبوب ، الغربال ، الشريم ، المَحَر ، السُّوم ، السَحب وووالخ من المفردات والزوامل والحكم والأمثال الشعبية الشفوية .
ففي دثينة يلهجون : واليوم يا الله واليوم دايم ، وشارح الخير بين الغنائم " . وفي جبل جحاف يهزجون ذات الكلمات في الشطر الأول ، الفارق أنهم في الشطر الثاني ، يقولون : قد صربوا الدخن والذرة قايم .. وكذلك الحال مع " يا هل السبولة أطلقوا لنا غابت الشمس " .
كيف لا تكون دثينة وجوارها جزءًا عزيزًا وغاليًا من جغرافية يمتد تاريخها العريق إلى ما قبل خمسة الف عام .
فجميع هذه المهاجل والأهازيج والعادات والأعراف مشتركات وإن اختلفت اللَّهجات ، وهو ما يؤكد انتمائنا للوطن الواحد ، ويعزز من لُحمتنا الواحدة ، ففي كل الأحوال مجتمعنا واحد موحد بثقافته وبتراثه وتاريخه وحضارته وماضيه وحاضره .
ثلاثة عشر فصل ، كان ختامها العودة إلى ' جمهورية دثينة ' فلأول مرة تسنح لي معرفة السبب لهذه التسمية الثورية لبقعة محاطة بالسلطنات والمشيخات والإمارات .
وقد أحسن الكاتب حين ضمَّن مؤلَّفه بملاحق تناولت تاريخ دثينة الممتد إلى القرن السابع قبل الميلاد حين كانت ضمن مملكة اوسان ، ولاحقا تحت نفوذ دولة قتيان .
وبرغم دور قبائلها ، وتحديدا قبيلة " النخعي " في الفتوحات الإسلامية إلَّا أنَّ دثينة لم تذكر بعد ذلك غير في القرن السابع إبَّان قيام الدولة الرسولية ٦٢٦ هجرية ، وذكُرت بقبائل الجحافل الدثينية .
وفي هذه الملاحق تفصيلًا دقيقًا لكل قبائل أبين التي يغلب على انتمائها إلى مدحج بن كهلان بن سبأ ، بالإضافة إلى قبائل حمير بن حضرموت بن سبأ ، وحمير بن سبأ ، وجميعها قبائل قحطانية .
ناهيك عن ملحق خاص بالأمثال الشعبية في دثينة ، والتعريف بقرية المؤلِّف " أمفرعة " ولهجة أهلها ، وتركيبها السكانية المكونة حاليا من قبائل الحسني ، والميسري ، والسعيدي ، والعلهي .
واصل هذه القبائل ينسب إلى " جحفل بن علة بن جلد بن مدحج " ، ودثينة قديمًا كانت واسعة تمتد إلى أحور جنوبًا ، وشبوة شرقا ، ويافع غربًا .
وبعد قراءتي لفصول الكتاب ومحتواه المعزَّز بالمساجلات الشعرية لفطاحل وأفذاذ الشعر الشعبي في أبين ولحج ويافع ، وبصور لقرى وهضاب ومقتنيات وأشخاص ؛ أجدني داعيًا المختصين والمهتمين بالتاريخ والتراث الشعبي إلى قراءة الكتاب بما احتواه من تدوين دقيق ومفصل للكثير من الأحداث التي شهدتها " دثينة " وجوارها خلال حقب تاريخية متعاقبة ، فهناك من الموروثات التي اندثرت ، ويحسب للمؤلف احيائها ونشرها لتكون في متناول كل باحث ومهتم ومريد .
واجدها فرصة هنا كي اشكر الرئيس علي ناصر محمد على مجهوده الرائع في البحث والتنقيب والتدوين لتلك التفاصيل المهمة التي زخرت بها سرديته الممتعة ، فمثل هذه الموضوعات السردية ذات الصلة بالموروثات الاجتماعية يستلزمها وقتًا وصبرًا ومشقة لا يحتملها الباحثين المختصين بالعلم والمعرفة ، فكيف بإنسان لديه من المشاغل والإرتباطات والاهتمامات السياسية ؟! .
وعمومًا ، الكتاب عاد بذاكرتي إلى ما سطره فيلسوف وشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني ، رحمه الله ، في مؤلفه الشهير " فنون الأدب الشعبي في اليمن " .
وكتاب البردوني موسوعة شاملة جمع فيه ما استطاع جمعه من الحكايات ، والأساطير ، والزوامل ، والمهاجل ، والحكم ، والأمثال ، والأهازيج ، والأغاني التي يرددها اليمنيون في مناسبات الحصاد ، والبذار ، والزواج ، والأسفار ، والبناء وغيرها من الفنون الجميلة التي تناقلتها الأجيال شفهيًا ، وتكاد اليوم في الأغلب بحكم المندثرة أو المهددة بالفقدان والضياع ..