من جمهورية دثينة إلى عدن

Author Icon محمد علي محسن

نوفمبر 13, 2024

اليمني الجديد

أهداني الصديق الشاعر والأديب اليماني المهاجر في قطر " نجم شرف الدين " نسختين إلكترونيتين من كتابي الرئيس الأسبق علي ناصر محمد " الطريق إلى عدن " و " ذاكرة وطن والوحدة اليمنية " ، ولكم كانت دهشتي ومتعتي بمحتوى ما سطره الكاتب عن رحلته من دثينة في أبين الى بندر عدن .

أربعة أيام قضيتها متمتعًا بكل جملة وسطر من الفصول الثلاثة عشرة ، وكأنَّني إزاء فيلم مصور ووممنتج وفق أحدث التقنيات السينمائية الهوليودية البوليودية .
نعم رحلت مع الكاتب وطفت معه وبشغف ومتعة مناطق وشعاب وجبال وقفار ورمال وبحار في مساحة شاسعة من بلادنا الغالية .
أكملت الكتاب البارحة ، وكان بودي إلَّا تنتهي صفحاته من شدِّة إعجابي به ، وبمعلوماته الكاثرة الجديدة والمشوّقة ، فلم تقتصر الذكريات على رحلة الفتى الريفي من مسقط رأسه في قرية ' أمفرعة " في دثينة إلى عدن البندر والأضواء .

فعلى لسان قائد رحلة العيس العم " سليمان " ورفيقه احمد مسعود برطم أخذنا الكاتب إلى عوالم لا متناهية ، من الذكريات الزاخرة بالدهشة ، والجَمَال ، والفرح ، والألم ، والشعر ، والثأر ، والزراعة وفصولها ، والمطر ومواسمه ، والعادات والأعراف القبلية وارتباط الناس بأرضهم ووالخ من الموروثات الفلكلورية والذكريات التي لم تقتصر على جيل أو عصر بعينة ، وإنَّما ذهبت إلى تواريخ زمنية موغلة بالقدم .

تبدأ القصة - وهي أقرب إلى ادب الرحلات - بالطفولة في القرية . ومن ثم انطلاقة الرحلة إلى عدن ، وكيف دخل الإنكليز إلى دثينة ، مستعرضًا عادات وأعراف المجتمع البدوي ، وكلَّما دخلت الرحلة منطقة أو باتت فيها ، شرع العم سليمان يحكي قصة المكان والناس والزمان .

فمن سلطنة الفضلي ، إلى الزراعة والمجاعة ؛ إلى مائدة الجراد المشوي ؛ إلى آل الظهر وبيت البسم ؛ إلى شقرة ؛ إلى السفر ليلا وحكايات السيارات ؛ إلى المسيمير والقطن والغجريات ورقصهن وقصصهن مع عُشَّاقهن ؛ إلى الكائن الأسطوري ؛ وصولًا إلى المحطة الأخيرة الشيخ عثمان ، نسبة للولي الصالح الشيخ عثمان بن محمد التركي ، صاحب المقام في بقعة قفرة أضحت فيما بعد مدينة تحمل اسمه إلى أن يشاء الله .

الرحلة دامت أسبوعًا كاملا ، قطعت جمالها ورجالها ٢٠٩ كيلو مترًًا ، وهي المسافة الفاصلة بين دثينة وعدن ، وبالنظر لحجم المؤلَّف فإن القاريء سيجد ذاته قاطعًا مسافات زمنية تتعدى القرن العشرين إلى قرون سحيقة .

شخصيًا كانت مساحة معرفتي لا تتعدى الكود وزنجبار وبعض المعلومات الضئيلة ، أمَّا وبعد إطلاعي على كتاب " الطريق الى عدن" فيمكن القول أنني عرفت أبين بكل قراها ، ومدنها ، وجبالها ، وسهولها ، وقبائلها ، ورجالها ونسائها ، وأعرافها وتقاليدها .

وأكثر من ذلك عشتُ فيها ، وعشقتُ ، وأحببتُ ، ورقصتُ ، وأكلتُ مع ناسها " المخلم " ، والعصيدة والمعصوبة بالسمن والسمسم والعسل ، ورددتُ مع البتول في موسم البذار اشعار الحميد بن منصور ، ودخنتُ الرشبة أو المداعة مع العم سليمان ، واضحكني برطم بتعليقاته الهازئة العفوية .

وتعاطفتُ مع ' شمعة ' وعشقها الممنوع الذي كلَّف إخوتها وأهلها جميعا في ' دثينة ' الدم والدموع بسبب الثأر بينهم وامتد لخمسين عامًا .
و " بلاء شمعة " لم يأتِ هذا القول من فراغ ، والكاتب لم يخطِ حين ماثل مأساة الإخوة بشواهد مؤلمة من تاريخنا ، مكتفيًا بالاشارة إلى " داحس والغبراء" وكذا " ناقة البسوس " .
ولابد هنا من الإشارة إلى أنَّ شعورًا خالجني أثناء قراءتي لهذا الكتاب البديع ، إذ خُيِّل لي أن معظم ما كتبه المؤلِّف يتطابق تمامًا مع الموروث الشعبي في " جبل جحاف " بالضالع ، أو سواها من مناطق اليمن المختلفة والزاخرة بمثل هذه العادات والتقاليد الإجتماعية ، والأسماء الغزيرة لكل قطعة أرض وهضبة ومجرى ومرعى .

فبإستثناء النطق لبعض الحروف مثل " الغين " التي ينطقها أهل دثينة " أ " أسوة بأهل مدينة الضالع ، وكذا حرف " الضَّاد " الذي ينطقه ربع دثينة ب " اللام " المفخَّمة، أو " ال ' التعريف وينطقونها مثل أهل تهامة " إم " فضلًا عن اسماء مواعين وأوعية ؛ أجزم أن ألحياة الاجتماعية في دثينة لا تختلف عن الحياة في أي منطقة ريفية في اليمن .

كأنَّ الكاتب سرد قصة قريتنا في جبل جحاف ، فالضِّمد ، والهيج ، والذراة ، والمَلبَج ، والتِفال ، والمَسرفة ، والمَعصُوبة ، والتلم ، والجنبية ، وحلاوة المضروب اللحجي ، والحِناء وطرق استخدامه ، والعسل وأنواعه ، والبَرَع ، وشجرة السدر وعظمتها وفاكهتها " الدوم " ، والألعاب الشعبية ، جُبنة القهوة ، الصَحفة ، الجلب " مخزن القصب " الجحُف " ثمرة القرع " ، مدافن الحبوب ، الغربال ، الشريم ، المَحَر ، السُّوم ، السَحب وووالخ من المفردات والزوامل والحكم والأمثال الشعبية الشفوية .

ففي دثينة يلهجون : واليوم يا الله واليوم دايم ، وشارح الخير بين الغنائم " . وفي جبل جحاف يهزجون ذات الكلمات في الشطر الأول ، الفارق أنهم في الشطر الثاني ، يقولون : قد صربوا الدخن والذرة قايم .. وكذلك الحال مع " يا هل السبولة أطلقوا لنا غابت الشمس " .

كيف لا تكون دثينة وجوارها جزءًا عزيزًا وغاليًا من جغرافية يمتد تاريخها العريق إلى ما قبل خمسة الف عام .
فجميع هذه المهاجل والأهازيج والعادات والأعراف مشتركات وإن اختلفت اللَّهجات ، وهو ما يؤكد انتمائنا للوطن الواحد ، ويعزز من لُحمتنا الواحدة ، ففي كل الأحوال مجتمعنا واحد موحد بثقافته وبتراثه وتاريخه وحضارته وماضيه وحاضره .

ثلاثة عشر فصل ، كان ختامها العودة إلى ' جمهورية دثينة ' فلأول مرة تسنح لي معرفة السبب لهذه التسمية الثورية لبقعة محاطة بالسلطنات والمشيخات والإمارات .

وقد أحسن الكاتب حين ضمَّن مؤلَّفه بملاحق تناولت تاريخ دثينة الممتد إلى القرن السابع قبل الميلاد حين كانت ضمن مملكة اوسان ، ولاحقا تحت نفوذ دولة قتيان .

وبرغم دور قبائلها ، وتحديدا قبيلة " النخعي " في الفتوحات الإسلامية إلَّا أنَّ دثينة لم تذكر بعد ذلك غير في القرن السابع إبَّان قيام الدولة الرسولية ٦٢٦ هجرية ، وذكُرت بقبائل الجحافل الدثينية .
وفي هذه الملاحق تفصيلًا دقيقًا لكل قبائل أبين التي يغلب على انتمائها إلى مدحج بن كهلان بن سبأ ، بالإضافة إلى قبائل حمير بن حضرموت بن سبأ ، وحمير بن سبأ ، وجميعها قبائل قحطانية .
ناهيك عن ملحق خاص بالأمثال الشعبية في دثينة ، والتعريف بقرية المؤلِّف " أمفرعة " ولهجة أهلها ، وتركيبها السكانية المكونة حاليا من قبائل الحسني ، والميسري ، والسعيدي ، والعلهي .
واصل هذه القبائل ينسب إلى " جحفل بن علة بن جلد بن مدحج " ، ودثينة قديمًا كانت واسعة تمتد إلى أحور جنوبًا ، وشبوة شرقا ، ويافع غربًا .

وبعد قراءتي لفصول الكتاب ومحتواه المعزَّز بالمساجلات الشعرية لفطاحل وأفذاذ الشعر الشعبي في أبين ولحج ويافع ، وبصور لقرى وهضاب ومقتنيات وأشخاص ؛ أجدني داعيًا المختصين والمهتمين بالتاريخ والتراث الشعبي إلى قراءة الكتاب بما احتواه من تدوين دقيق ومفصل للكثير من الأحداث التي شهدتها " دثينة " وجوارها خلال حقب تاريخية متعاقبة ، فهناك من الموروثات التي اندثرت ، ويحسب للمؤلف احيائها ونشرها لتكون في متناول كل باحث ومهتم ومريد .

واجدها فرصة هنا كي اشكر الرئيس علي ناصر محمد على مجهوده الرائع في البحث والتنقيب والتدوين لتلك التفاصيل المهمة التي زخرت بها سرديته الممتعة ، فمثل هذه الموضوعات السردية ذات الصلة بالموروثات الاجتماعية يستلزمها وقتًا وصبرًا ومشقة لا يحتملها الباحثين المختصين بالعلم والمعرفة ، فكيف بإنسان لديه من المشاغل والإرتباطات والاهتمامات السياسية ؟! .

وعمومًا ، الكتاب عاد بذاكرتي إلى ما سطره فيلسوف وشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني ، رحمه الله ، في مؤلفه الشهير " فنون الأدب الشعبي في اليمن " .
وكتاب البردوني موسوعة شاملة جمع فيه ما استطاع جمعه من الحكايات ، والأساطير ، والزوامل ، والمهاجل ، والحكم ، والأمثال ، والأهازيج ، والأغاني التي يرددها اليمنيون في مناسبات الحصاد ، والبذار ، والزواج ، والأسفار ، والبناء وغيرها من الفنون الجميلة التي تناقلتها الأجيال شفهيًا ، وتكاد اليوم في الأغلب بحكم المندثرة أو المهددة بالفقدان والضياع ..

أحد أهم الكتب، التي ركز فيها الرئيس علي ناصر ،بسرد معظم الظروف والتحولات التي مر بها طوال تجربته السياسة والإجتماعية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى