عُمان الشقيق الصامت

Author Icon محمد علي محسن

أكتوبر 8, 2024

اليمني الجديد

أحد أقاربي تواصل معي هاتفيًا من " مسقط " عاصمة سلطنة عُمان ، أخبرني ضاحكًا وربما هازئًا من أحوالنا : أنا ورفيقي القادمين من اليمن فقط ، نمشي راجلين ، فلا ترى غيرنا في هذه الشوارع الفسيحة تحت سياط الهاجرة ، فأغلب العُمانيين تقلُّهم سياراتهم ".

أمَّا وحين عاد إلى عدن ، فأخذ يحدِّثنا بإعجاب ، كأنَّه زار لندن أو باريس ، مسهبًا في وصف ما شاهده في مسقط من تطور ونهضة إنسانية وعمرانية وثقافية .

نظام عام دقيق كساعة إلكترونية ، أمن ، نظافة شوارع ، متنفَّسات ، سياحة ، إدارة وفق أحدث الأنظمة والقوانين ، تجارة بينية ، خدمات صحية راقية ، اتصالات بتقنية عالية الجودة .
قال مندهشًا : تخيَّل أن المُشغِّل الرئيس للإنترنت ( السيرفر ) الخاص بدول الشرق الأوسط والخليج موجود في عُمان ، وما كان سيعثر على مدينة آمنة مثل مسقط .

قلت لأبي محمد : من يصدِّق أن المواطن العُماني كان مهانًا في بلدان الإغتراب ، في السعودية وقطر والبحرين والإمارات والكويت ، كان العُماني في مرتبة أقل من اليمني إلى حقبة الثمانينات .
ما تواتر من أخبار السُلطان " قابوس " رحمه الله ، أنَّه زار الرياض وساؤه حالة رعاياه في بلاد الإغتراب ، فأخذ على عاتقه تصحيح أوضاع بلده . والآن تأمل كم نسبة العُمانيين في أوروبا أو امريكا ؟ بضع مئات يتواجدون في امريكا ، وبريطانيا ، وكندا ، وأستراليا.

أشتغل الرجل الداهية بصمت ووقار ، فلم يتذمَّر ،أو يشتكي ، أو يطلب مساعدات مالية أو إنسانية ، استجلب خيرة العقول في الإدارة والإقتصاد والتعليم وسواها ، فضلا عن خبراء إنكليز لتطوير وتحديث الجيش والأمن ، ووفق معايير نظامية توزاي ما هو في بريطانيا أو امريكا .

شخصيًا ، اعد سلطنة عمان ك ' سويسرا ' في أوروبا ، سياسة الحياد الإيجابي مكَّن الدولة الجارة من تجاوز كثير من مشكلاتها وازماتها الداخلية والخارجية . يكفي الإشارة إلى أن عُمان البلد العربي الوحيد الذي أبقى علاقته مع مصر بعد اتفاق " كامب ديفيد ' بين الرئيس المصري الراحل السادات ، وبين رئيس حكومة اسرائيل " مناحيم بيجين " .

هناك من ينظر لسلطنة عُمان من منظور طائفي ضيق ( سني - شيعي ) ، على أعتبار أن مذهب الدولة الإباضية ، ولكن الزائر لهذا البلد لن يجد أن هناك أيِّ إنقسام أو تمايز طائفي ، فحرية المُعتقد كفلها القانون ، وللجميع حق ممارسة معتقداتهم ، بمن فيهم المنتمين لطوائف غير مُسلمة كالمسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين .

وهذه الجاليات الوافدة عددها كثيف ، أقل بقليل من السكان الأصليين ، أي ما يقارب ال ٢ مليون وافد ، من إجمالي ال ٥ مليون نسمة يعيشون بتسامح واحترام متبادل . فليس هناك من نزعة طائفية بين الفئتين الأكبر الإباضية والشافعية ، أو بين الفئتين وبين إقلية ضئيلة جدا كالشيعة الأثنى عشرية ، أو بين الطائفة المُسلمة وبين بقية الطوائف غير المُسلمة .

كثيرًا ما قرأت أو تابعت مسؤولًا أو مثقفًا عمانيًا ، وفي كل مرَّة أجدني أسأل ذاتي وبدهشة وإجلال : كيف من نعدهم شطرنا الآخر أنجزوا هذه الطفرة ، وهذا السبق ، وفي ظرفية زمنية لا تتعدى العقدين أو الثلاثة ؟.

كيف أنَّ الإنسان العُماني يتحدَّث اليوم عن بلده بفخر وإعتزاز وفي مختلف القنوات ووسائل الإعلام ؟ كيف له الاحتفاظ بلبسه التقليدي والمباهاه به أين حل أو ذهب ؟ كيف أنَّ عقلية العُماني بهذا النُضج والمعرفة والثقة ؟ كيف قدر على المواءمة ما بين الأصالة والمعاصرة وفي أبهى حُلَّة ؟ .

والمهم كيف أنَّ الإنسان العُماني بات في وطنه مرفهًا آمنًا ومستقرًا بينما شقيقه الآخر اليمني يعاني ويكابد في وطنه وفي اغترابه ؟ . ففي وقت أضحت عُمان قبلة للاستثمار والسياحة والثقافة والفنون والآداب وسواها ؛ مازال اليمني إمَّا قتيلًا في جبهات الوغى ، وإمَّا غريقًا في أهوال البحار سعيًا إلى أوروبا أو امريكا .

هل رأيتم إنسانا عُمانيا مغتربًا مهانًا في بلدان الإغتراب ؟ هل قدر لكم رؤية عُماني نافشًا ريشه مثل طواويس خليجية أو يمنية أو عربية ؟ .
عُمان بلد يشبهنا ، بل يماثلنا كثيرًا ، تراثًا وتاريخًا وثقافة ومساحة وتضاريسا ، نعم لا يوجد شعب أقرب إلينا من الشعب العُماني ، فكيف انجزوا نهضتهم وكيف تخلَّفنا عن ركبهم ؟.

دعكم من الثرثرة عن ثروات النفط والغاز والمعادن والسواحل والجبال الشاهقة ، فلا تنمية ولا نهضة دون توافر شروطها الأساسية ، الإنسان أولًا ، وثانيًا ، ورابعًا ، ومن ثمَّ الرغبة والعزيمة والفرصة والإدارة الملهمة .

اقتصاد عُمان يعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والغاز ، وعُمان - أيضًا - تشتهر بأشكالها التقليدية للفنون، مثل الفخار والنسيج والعمل الفضي ، وكذا الحلوى أو الخِنجر الذي لم يخرج من غمده في فعل جنائي ، أنه مجرد زينة وتراث . وعُمان بها وديان وقلاع وأسواق نابضة بالحياة . ما يعني أنَّ عُمان مثل اليمن .

السُلطان قابوس كان قائدًا ملهمًا ومثقفًا ووطنيًا ، فمن يظن أن النهضة - واي نهضة - تكون عفوية ونتيجة ثروة نفط أو ذهب فهذا يجهل حقيقة أن النفط والذهب وما تكتنزه الأرض يستلزمها عقول وقادة وإلَّا كانت وبالًا على أي مجتمع ، ولعل في اليمن ودول أفريقية عدِّة خير نموذج .

فمن من قادة هذه البلاد السابقين أو الحاليين لديه الرؤية والضمير والرغبة ، كي يمضي على خطى السُلطان الذي نزل إلى خيم البدو الرُحل لإقناعهم بضرورة تنظيم النسل ؟ فهل هنالك من يمكنه البذل والتضحية لأجل وقف الحرب وإحلال السلام ؟ .

محمد علي محسن

زر الذهاب إلى الأعلى