عن عدن وتعز مرة أخرى
لا يجوز أخلاقياً وسياسياً اتهام الشمال بأنه السبب في كل العجز الذي نراه جميعاً في ما يسمى بـ "المدن المحررة"
تحتل عدن وتعز مكانة مهمة في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي لليمن قبل وأثناء وبعد الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن وحكم الأئمة في شماله، ففي المدينتين عاش واستوطن عدد كبير من القيادات التاريخية والاقتصادية، وكانت معظم الحركة التجارية قبل استقلال جنوب اليمن في الـ 30 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 تمر عبر ميناء عدن لتنتهي في أسواق تعز وغيرها من مدن الشمال، وكانت تعز مقر البعثات الدبلوماسية خلال فترة حكم الإمام أحمد وقبل انتقالها إلى صنعاء بعد استقرار النظام الجمهوري مع نهاية الحرب ضد الملكيين عام 1970.
ومن عدن انطلقت أول حركة سياسية شمالية منظمة قادها الراحلان أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري لمعارضة حكم الإمام يحيى ثم الإمام أحمد، كما سكنت واستقرت وعملت أكبر البيوت التجارية من أبناء تعز وغيرها من مدن اليمن شمالاً وجنوباً، وأسهمت في ازدهار المدينة ثم نقلت نشاطها بعد قرارات التأميم في جنوب اليمن إلى شماله.
وبعد خروج الجيش البريطاني من عدن شارك كثير من أبناء تعز في سلطة الجنوب وتولوا مواقع سياسية مؤثرة ومعظمهم عاش طفولته أو ولد في عدن وما شعر أحد منهم بالغربة فيها، خصوصاً أن فكرة الوحدة اليمنية كانت راسخة في أذهان كل الجيل السياسي الذي حكم جنوب اليمن، كما كانت الوحدة مطلباً لا تعارضه إلا قلة خرجت من عدن بعد الاستقلال واستقر عدد كبير منها في دول الخليج، ولكن الشطط لم يصل بها في ذلك الوقت حد القطيعة والكراهية التي يحاول بعضهم ضخها في المجتمع ضد كل أبناء الشمال عموماً وبخاصة أبناء تعز.
ومنذ إخراج مسلحي الحوثي من عدن عام 2015 والمعسكرات العسكرية التي كان يقودها ضباط شماليون، جرت ممارسة سياسة مقيتة تعرض فيها كثير من أبناء اليمن الشمالي إلى إجراءات غاية في القسوة، قيل إنها أمنية وكان معظمها خارج القانون، وعلى رغم كل المبررات التي قيلت فإن الواقع دحضها، وصحيح أن الأمر الآن قد تحسن كثيراً وخفت حدة التعامل خارج المألوف لكنها قابلة للعودة في أية لحظة، ومن هنا تكمن أهمية النقاش المفتوح من دون قيود حول الشكوك وما هو المطلوب لتبديدها.
إن توجيه الاتهام لكل ما هو قادم من الشمال وإثارة الشبهات حوله لا يمكنه الإسهام في الاستقرار والتنمية لأن مدخلهما هو الأمن، وإذا ظلت الشكوك تدور حول كل قادم من خارج جنوب اليمن فإن ذلك سيكون معوقاً لكل محاولات الخروج من دوائر الفقر والجوع والمرض، ولا يجوز أخلاقياً وسياسياً اتهام تعز وكل الشمال بأنه السبب في كل العجز الذي نراه جميعاً في عدن وما يسمى بـ "المدن المحررة".
قبل أشهر من الآن كانت الاتهامات بالفشل والفساد توجه نحو رئيس الحكومة السابق معين عبدالملك سعيد، وإنما الواضح الآن أن التهمة الرئيسة غير المعلنة، إضافة إلى العجز الإداري، هي أنه من تعز التي بالصدفة المحضة يتولى اثنان من أبنائها منصبي الرئاسة في مجلس القيادة الرئاسي ومجلس النواب، ولم يكن لأبناء تعز أي دور في اختيار الثلاثة، ولا هم جميعاً يمثلون تعز لأن اختيارهم لم يجر باستفتاء أو مبايعة أو مشاورات.
ما يجب فهمه أن الدعوات إلى عودة الأوضاع لما كانت عليه قبل الـ 22 من مايو (أيار) 1990 والصخب والشعارات النارية المصاحبة، لا يمكنها إنجاز هذا المشروع لأن متطلباته غير متوافرة في الوقت الحاضر، وتحتاج إلى مناخ هادئ تبحث فيه الأطراف المعنية في اليمن كيفية التفاهم على مخرجاته، والغالبية في اليمن صارت مقتنعة بأن الحكم المركزي، سواء من عدن أو من صنعاء، لم يعد صالحاً ولا ممكناً ولا مقبولاً، ولكن السؤالين اللذين لا يجدان إجابة متزنة هما: ما هي الصيغة التي توقف نزف الكراهية والأحقاد بعد توقف نزف الدماء؟ ومتى يمكن التوصل إلى اتفاق مرض للجميع؟
يتصور بعضهم أن الانفصال أو استعادة الدولة الجنوبية سينجزان أحلام وطموحات المنادين بهما، وهؤلاء لا يدركون أن الأمر أكثر تعقيداً من هذه الشعارات، ولعل الخطوة الأولى الغائبة عن الأذهان هي أن التوصل إلى أي صيغة كانت يحتاج إلى اتفاق وتوافق بقية الشركاء في هذا الوطن، وبخاصة الذين لا يعترضون على أية نتيجة تمنح اليمنيين فرصة بناء مستقبل أقل قتامة وهشاشة، وأكثر شراكة وانسجاماً.
ولست مبالغاً حين أقول إن الخطوة التي ستحقق للجميع مبتغاه تكمن بداية في استقرار عدن وتعز بخاصة، فالمدينتان لا يمكن الفصل بين مصالحهما وحيويتهما في أي اتفاق يمكن التوصل إليه، ولتحقيق ذلك يجب أن تتفهم قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي تحديداً أن استمرار الشحن النفسي ليس مجدياً ولن يُمكنهم من إنجاز الشعارات التي تعجلوا في رفع سقفها إلى حد لا يمكن معه الصعود إليه.
نعم عدن وتعز هما مفتاح الاستقرار في المناطق المحررة، وبهما معاً يمكن التوصل إلى قاعدة عيش مشتركة تتحقق فيها المصالح وتصبح الشعارات قابلة للحياة، ومن دون ذلك لا يمكن مقاومة المشروع الذي ترسخه السلطة في صنعاء والتي تتابع بهدوء وسعادة الخلافات التي تعصف بكل مكونات السلطة في عدن.