لا دولة مع إقصاء ولا وحدة مع هيمنة !!
من النهاية، لن يستقيم حال اليمن بسلطة مغتصبة من قبيلة أو طائفة أو منطقة أو جماعة أو عائلة أو قائد مهما بلغت سطوته ونفوذه.
كما لن يتوحد اليمنيون أو يقيموا دولة عادلة في ظل هيمنة جماعة مذهبية سلالية تدعي أحقيتها الدينية السماوية في حكم اليمن واليمنيين، أو بوجود غيرها من الجماعات القبلية أو المناطقية المسيطرة الآن بحكم سلطة الأمر الواقع، وهذه مسألة بديهية لا تقبل أي نقاش أو خلاف حولها.
كثير من الجنوبيين يسألونني أو يعلقون على ما أكتبه قائلين: "مع من سنتوحد ثانية؟ ليحرروا محافظات الشمال أولاً من الجماعة الحوثية وبعد ذلك يمكن للجنوبيين مناقشة الحالة اليمنية."
ما شجعني على كتابة هذه السطور هو أنني لاحظت تعليقات كان أصحابها يرفضون مجرد الحديث عن التوحد السياسي، أصواتاً بالغت في غلوها لفكرة استعادة الدولة الجنوبية، والآن أراها قابلة بفكرة الدولة اليمنية المركبة.
وعندما ندعو لإعادة الاعتبار للتوحد، فذلك لا يعني بحال من الأحوال تكرار أخطاء وكوارث جمهورية صالح، وإنما يجب التوافق على صيغة مختلفة كلياً عن نموذج الدولة التي سادت زمناً وتسبب نظامها القبلي العسكري الجهوي في تشويه أهم منجز سياسي تاريخي.
المهم والأساس أن تؤسس هذه الدولة لشراكة حقيقية في السلطة والثروة والقوة، فهذه المسميات أعدها سبباً رئيساً في تخلف اليمن واليمنيين، جنوباً وشمالاً، ودون توزيعها وبشكل أفقي عادل يرضي كافة الشرائح والمكونات المجتمعية، ستظل بؤرة منتجة لصراعات محلية داخلية.
وأياً كانت التعقيدات والمشكلات، لا بد من حلول مرضية يتوافق عليها الساسة، وينبغي أن يوضع اعتبار المصلحة الجمعية فوق أي معيار آخر، كي لا يتكرر سيناريو التوحد العاطفي المتسرع الذي قاد الجميع إلى هذه الوضعية.
نعم، على الجنوبيين أن يمدوا أيديهم لكل الشركاء السياسيين المؤمنين بحتمية استعادة وهج الثورتين والجمهوريتين، ولنكن واضحين مع شركائنا الوطنيين في الشمال الذين يعنيهم مستقبل الدولة اليمنية الحديثة المنشودة والقابلة للاستدامة والنهضة.
ليس هناك ثمة خصومة أو عداء مع أحد، فحتى أحمد وطارق وأتباعهم من حُرَّاس الجمهورية المحتفين الآن برفع العقوبات عن صالح ونجله من مجلس الأمن، يجب أن تكون الأمور معهم شفافة وواضحة. فلابد أن يدركوا أن جمهورية صالح انتهت، وأن أي شراكة سياسية معهم ستكون في جمهورية اتحادية، بما تعني من قيم ومبادئ عادلة يتشارك بها كافة اليمنيين.
وإذا ما بقي هؤلاء على ذات النمط الرافض لقيام الدولة الاتحادية، وهو الرفض الذي أفضى إلى تسليم صنعاء وجيشها وترسانتها ومؤسساتها لجماعة سلالية عنصرية؛ فإن القوى الوطنية مجتمعة يجب أن تنفض يدها عنهم ولا تعتد بهم كقوة وطنية غايتها الجمهورية.
ففي هذه الحالة، هم لا يختلفون عن جماعة الحوثيين، فكلاهما يدعي أحقيته بالسلطة، وإن اختلفوا في الباعث الديني السلالي أو القبلي الوراثي.
والأمر ينطبق جنوباً، فلا يمكن الحديث عن دولة اتحادية عادلة دونما تسوية سياسية تمهد الطريق لهذا التحول التاريخي، فمثلما نطلب أن نكون واضحين وشفافين مع القوى الوطنية في الشمال، ينبغي أن نتحلى بالصدق والجرأة مع كافة الفرقاء الجنوبيين.
هذه التسوية السياسية يجب أن تفضي إلى موضع قوي وصلب عند أي توافق سياسي حول الدولة اليمنية المستقبلية، فليس من المعقول أو المقبول أن نطالب الآخرين باستعادة بوصلة جمهورية سبتمبر واستلهام أهدافها وقيمها الوطنية العادلة، بينما نحن يستلزمنا استعادة روح ثورة أكتوبر وجمهورية نوفمبر.
فقيم الثورة والاستقلال تكاد أن تكون غائبة أو مغيبة نتيجة لما ساد واستوطن في ذهن وممارسة الكثير من الجنوبيين الذين تم تضليلهم بأفكار خادعة نائلة من الثورة والجمهورية. كما تم جرُّهم إلى مساحة غير لائقة بهم أو بنضالهم وتضحياتهم الوطنية العادلة.
هذه الكيانات في المخأ أو عدن أو مأرب أو حضرموت أو المهرة أو أبين أو الضالع أو غيرها، كيانات ماضوية تتساوى في أفقها الضيق وفي غايتها الماضوية.
إنها أقل بكثير من مساحة وشعب اليمن، وكلاهما أكبر من كل هذه الكيانات الضائقة بالجمهورية والدولة والثورة والشراكة والتغيير والمواطنة. وما لم تتحلَّ هذه المسميات بالشجاعة وتعيد النظر في كل شيء تقوم به؛ فإنه لابد من تحالفات سياسية وطنية بديلة تمثل قيم ومبادئ الدولة الوطنية الجامعة لشتات هذه الكيانات المختلفة والمتناقضة مع بعضها البعض فكرة وممارسة وغاية.
نعم، يتوجب على القوى الوطنية مغادرة صمتها وأن تتحرر من خوفها، فلابد من بناء تحالفات سياسية جديدة، ومن خلالها فقط يمكن خلق فضاءات ورؤى وقادة وكيانات ضاغطة وفاعلة في الساحة اليمنية التي تعاني الآن من انسداد أفق، وتوقف سياسي مخيف نتيجة لسطوة الكيانات العسكرية، وغياب الحامل السياسي المعبر عن المرحلة الحالية والقابلة.
خلاصة الكلام، الواقع المشاهد غلبه منطق سلطة القوة والكتائب والجبهات وغابت فيه السياسة، بما تعني من خيارات وبدائل ورؤى وأدوات سياسية. فدون حامل سياسي واحد يمكنه ردم الهوة بين ما هو سياسي وما هو عسكري، يستحيل هزيمة الحوثيين وإجبارهم على الانصياع لسلطة الدولة.
فكل الكيانات الموجودة في الساحة اليوم بمقدورها خوض معارك عسكرية ثانوية هنا أو هناك، لكنها جميعاً في أمسّ الحاجة إلى مسار سياسي واضح المعالم. وهذا المسار لن يكون بغير رؤية سياسية وطنية وشاملة، وبقيادة واحدة قادرة على إدارة المرحلة الراهنة واستنهاض الهمم والطاقات الخاملة أو المعطلة، بما يخلق فضاءات جديدة تفضي إلى عملية انتقال سياسي تؤسس لحقبة تاريخية جديرة بالثقة والأمان.